Untitled Document

شبكة البصرة منبر العراق الحر الثائر
print
التهمة الكيدية في حرق مكتبة الإسكندرية 8


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التهمة الكيدية في حرق مكتبة الإسكندرية 8

شبكة البصرة

علي الكاش

نقد الرواة والروايات السابقة

كما نوهنا اعتمد المؤرخون العرب ومن بعدهم الغربيون في دعوى حرق المسلمين مكتبة الاسكندرية على الرواة المذكورين في أدناه، وسوف نناقش وضع الكاتب ومدى صحة الرواية لكل منهم على حدة لتسنى لنا معرفة ميوله واتجاهاته، ونستشف من خلالها مدى مصداقيته، على أقل تقدير بما يتعلق بالكتاب الذي تضمن حادثة حرق مكتبة الإسكندرية.

ولأن المصدر الرئيس للحادثة ورد في رحلة، فلا بد من الإشارة إلى أنه في أدب الرحلات توجد مناهج معتمدة في العمل أهمها:

أ. منهج المشاهدة والرؤية العينية للرحالة فيما يتعلق بمشاهداته لأحداث ووقائع عاصرها في الأمصار التي زارها ولقاءاته مع الناس وتدوينها وفق التسلسل الزمني لزياراته المدن كرحلة ابن بطوطة، او حسب التوزيع الإقليمي او الجغرافي للأقاليم السبعة كالمسالك والممالك لابن خرداذبة، او وفقا لحروف الهجاء كمراصد الاطلاع لصفي الدين البغدادي، او حسب التضاريس الأرضية كمسالك الأبصار في ممالك الأمصار لشهاب الدين العمري.

ب: منهج الرواية والنقل عن الرحالة الذين سبقوه في رحلته الى نفس الأماكن، وهذا ما تجده من خلال تكرار الحوادث والأحاديث كما في كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار لأبي عبد الله محمد الحميري الذي لم يقم بأية رحلة للأمصار التي تحدث عنها في كتابه وإنما نقلا عن غيره. وهناك من ينقل ويشير الى المصدر والسند، وهناك من ينقل الرواية دون الإشارة الى المصدر او السند. على سبيل المثال: قال الادريسي" جزيرة القمر (من اعمال الهند) وبينهما مجرى سبعة أيام وهي جزيرة طويلة وملكها يسكن منها مدينة ملاي ويقول أهل هذه الجزيرة إن طولها مارّا مع المشرق أربعة أشهر أولها في الدبيحات وآخرها يعارض جزائر الصين في جهة الجنوب وملكها لا يحجبه ولا يقوم بخدمته في طعامه وشرابه وجميع أوامره إلا المخنثون يلبسون الثياب النفيسة من الحرير الصيني والعراقي وفي يمين كل واحد منهم سوار ذهب واسم السوار عندهم بلغة الهند اللكنكو ويسمون هؤلاء المخنثين التنبابة وهم يتزوجون الرجال عوضا من النساء ويخدمون الملك بالنهار ويرجعون بالليل إلى أزواجهم". (نزهة المشتاق/71).

وقال الحميري" ملاي: مدينة من جزيرة القمر من جزر الهند، وملكها لا يحجبه ولا يقوم بخدمته في طعامه وشرابه إلا المخنثون يلبسون الثياب النفيسة من الحرير الصيني والعراقي، وفي يمنى كل واحد منهم سوار ذهب، وهؤلاء المخنثون يتزوجون الرجال في عوض النساء، ويخدمون الملك بالنهار ويرجعون بالليل إلى أزواجهم". (الروض المعطار1/546).

ج. النقل عن الآخرين من الزوار والتجار واهل البلد من خلال سماع ما يذكروه من أحداث واحاديث قديمة او حديثة بالنسبة لزمانهم، قال العمري عن الهند قبل تأليف كتابه " كنت أسمع الأخبار الطائحة والكتب المصنفة، ما يملأ العين والسمع، وكنت لا أقف على حقيقة أخبارها، لبعدها منا، وتنائي ديارها عنا". (مسالك الابصار 3/39).

وعادة يتخذ الرحالة احد المواقف التالية التي تتجسد بوضوح في مشاهداته:ـ

اولا. الأخذ بالرواية كاملة، والثقة بمن تحدث بها سواء كان الرحالة على صلة وثيقة به او مجرد معرفة وقتية بالراوي دون ان يقارنها بغيرها من الروايات او يتحقق من صحتها من الناس.

ثانيا. رفض الرواية تماما بعد عرضها، لأنها تتنافى مع الواقع والمنطق والعقل السليم، كما ورد في تصويبات ابن حوقل لكثير من المشاهدات والأحداث في كتابه صورة الأرص.

ثالثا. التأكد من الخبر عن طريق التجربة الذاتية، وهذا ما فعله ابن حوقل والعمري بعد أن باشرا في تدوين مشاهداتهما، فقد ذكر العمري" فلما شرعت في تأليفي هذا الكتاب، تتبعت ثقاة الرواة، ووجدت أكثر مما كنت أسمع وأجل مما كنت أظن وعادة كنت أسأل الرجل عن بلاده، ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق، فما اتفقت عليه أقوالهم، وتقاربت فيه أثبته، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت تركته، ثم أنزل الرجل المسؤول مدة أناسيه فيها عما قال، ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على قوله الأول، أثبت مقاله، وإن تزلزل أذهبت في الريح أقواله، كل هذا لأتروى في الرواية، وأتوثق في التصحيح". (مسالك الابصار3/31).

وهنا لابد من التأكيد مرة أخرى على ناسخ الكتاب ومدى نزاهته وكفاءته وأمانته في نقل الكتاب دون تحريف النصوص زيادة أو نقصانا أو نشويها وفقا لميوله الشخصية أو للحصول على امتيازات ما، على سبيل المثال كان ناسخ كتاب مسالك الابصار للعمري، شيعيا لذا فهو يضيف من عنده صفة "عليه السلام" عقب أي ذكر لأي من أئمة الشيعة حصرا دون غيرهم، وهذا لا يمكن أن يكون من المؤلف فهو عمري، وينتسب إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولا يُعقل ان لا يترضى عليهم عند ذكر اسمائهم.

 

عبد اللطيف البغدادي

هو رحالة عراقي وحكيم ونحوي وعارف بالنبات والحيوان والتشريح، والفقه والأدب وعلوم القرآن والأدوية والروحانيات والكلام والفلك والفرق والبلاغة والسياسة والطبيعة والأحجار الكريمة والنفس والحواس والفلسفة والمنطق وغيرها العلوم مع إنه يقول" أياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة وواظب على العلم الواحد". (عبد اللطيف/40). كما يقال ينصح الناس وينسى نفسه!

ذكر المستشرق "ماكس مايرهوف" في كتابه (تراث الإسلام) بأن" البغدادي رحل من بغداد إلى القاهرة ليرى كبار العلماء وأرض مصر، كما وصف المجاعات والزلازل التي حدثت فيها. وقدم البغدادي معلومات نفيسة عن خواص العظام بعد دراسة لها في مقبرة قديمة تقع شمال غربي القاهرة، وراجع وصحح وصْفَ جالينوس لعظم الفك الأسفل وعظم العجز". لهذا يمكن الجزم بأن البغدادي ليس بمؤرخ. كما إنه في رحلته لم يراجع أو يصحح كتب جالينوس، بل تمنى ذلك! فقد ذكر البغدادي" وليت مكَّنتنا المقادير بالمساعدة ووضَعنا مقالةً في ذلك تحكي فيما شاهدناه وما علمنا من كتب جالينوس". (الإفادة والاعتبار/61).

كما هو معروف أن كتب الرحالة تحتوي على الكثير من الأخطاء التأريخية سيما في تسميات الأشخاص، والأماكن، وتفاصيل الحوادث، وتواريخها. فإذا قرأت كتاب عن مدينة ما، ستجد بعض الأسماء والتفاصيل تختلف في كتاب آخر، ولو بشكل محدود، بسبب اختلاف المشاهدات من قبل الراوي وتأريخ الرحلة واختلاف مصادر معلوماته. أدب الرحلات هو أحد فنون الأدب وليس التأريخ، ويتضمن وصف ومشاهدات الرحالة، وهو أقرب للجغرافية منه للتأريخ ويتضمن غالبا أمورا تتعلق بآداب الشعوب وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ونبذ عن النباتات والأعشاب والحيوانات، وقد يتطرق الرحالة إلى الأنساب والعشائر. يفترض بالرحالة أن ينقل مشاهداته وما عايشه ومرٌ به من حوادث، وليس حوادثا لا علاقة لها برحلته، بل سبقت ولادة الرحالة نفسه بقرون، وإن تحدث لسبب ما، عليه أن يذكر سند روايته ليعرف القارئ مصدرها ويحكم عليها.

عاش البغدادي في القرن السابع الهجري أي بعد وقوع الحادثة المزعومة بأكثر من ستة قرون،

كتب رحلته عام (600 هـ). وهو لا يذكر سند الرواية وممن سمعها أو استقاها، سيما ان المؤرخين القدامى العرب والأجانب والرحالة أيضا لم يشيروا إليها بتاتا. والكثير من المعلومات الواردة في رحلته يقول عنها حدثني احدهم، او حدثني بعض الثقاة، وجميعهم نكرة، لا أحد يعرفهم! أمثلة على ذلك:

في حديثه عن عمود السواري في الإسكندرية أيضا بقوله" خبرني بعض الثقاة إنه قاس دوره فكان خمسا وسبعين شبرا". (كتاب الإفادة والاعتبار/94)، ثم يستمر في تكملة الخبر. وينقل البغدادي عن أحدهم دون ان يسميه" إِّني لأذكر في سنة تسعين ومائتين أنّ الشهب بمصر انتثرت وعمّت الجوَّ بأسره، فارتاع الناس ولم تزل تكثر فلم يمضِ لذلك جزءٌ من السنة يسير، حتى ظمئ الناس وبلغ نِيل مصر ثلاث عشرة ذراعا واضطربَ الناس اضطراباً، زالت به دولة الطولوني من مصر وانتشرت في سنة ثلاثمائة من سائر جهات الجو فنقص النيل أيضا ووقعت همرجات واضطرابٌ في المملكة، وهذه لعمري دلائل قوية ولكنّها عامة لجميع الأقاليم وليست خاصة بمصر فقط، على أنه أيضا قد وقع هذا الحادث بعينه في سنتنا هذه من تناثُرِ الكواكب في أوَّلها ونشيش الماء في آخرها". (الإفادة والاعتبار/48).

كذلك قوله" مما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم، وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر ليس فيها بلد إلّا وقد أكل فيه الناس أكلا ذريعا من أسوان وقوص واليوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحي، وخبرني بعض أصحابي وهو تاجر مأمون حين ورد من الإسكندرية بكثرة ما عاين بها من ذلك، وأعجب ما حكى لي أنه عاين أرؤس خمسة صغارٍ مطبوخة في قدر واحدة بالتوابل الجيدة". (الإفادة والاعتبار/52).

وذكر" حكى لنا رجل أنه كان له صديق أدقع في هذه النازلة فدعاه صديقه هذا إلى منزله ليأكل عنده على ما جرت به عادتهما قبل، فلما دخل منزله وجد عنده جماعة عليهم رثاثة الفقر وبين أيديهم طبيخٌ كبير اللحم وليس معه خبز، فرابه ذلك وطلب المرحاض فصادف عنده خزانة مشحونة برمم الآدمي وباللّحم الطري فارتاع وخرج فارّاً. وظهر من هؤلاء الخُبثاء من يصيد الناس بأصناف الحبائل ويجلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل، وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطبّاء ممّن ينتابني، أما أحدهم فإنّ أباهُ خرج فلم يرجع، وأما الآخر فإنّ امرأةً أعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضِها، فلما توغّلت به. ضايقَ الطرق استرابَ وامتنعَ عنها وشنّع عليها فتركت درهميها، وأما الثالث فإنّ رجلاً استصحبه إلى مريضه في الشارع بزعمه، وجعل في أثناء الطريق يصدف بالكسر ويقول اليوم يُغتنم الثوابُ ويتضاعفُ الأجرُ ولمثل هذا فليعمل العاملون، ثم كثر حتّى ارتاب منه الطبيب ومع ذلك فحسن الظن بقلبه وقوة الطمع تجذبه، حتى أدخله داراً خرِبة فزاد استشعاره وتوقّف في الدرج وسبق الرجل فاستفتح، فخرج اليه رفيقه يقول له: هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فخرج الطبيب لما سمع ذلك، وألقى نفسه إلى إصطبل من طاقة صادفها السعادة فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله عن قضيته فأخفاها عنه خوفا منه أيضا، فقال: قد علمت حالك فإنّ أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل". (الإفادة والاعتبار/52). لاحظ الأخطاء اللغوية!

وقوله عن حوادث سنة خمس وتسعين وخمسمائة" حُكي لي أنه كان بمصر تسعمائة منسجٍ للحُصُر، فلم يبق إلّا خمسة عشر منسجا، وقِس على هذا سائر ما جرت العادة أن يكون بالمدينة من باعةٍ وخبازين وعطّارين وأساكفة وخيّاطين وغير ذلك من الأصناف، فإنه لم يبق من كلّ صنفٍ من هؤلاء إلّا نحو ما بقي من الحصريين أو أقل من ذلك". (المصدر السابق/57). وقوله" حكي لي أن رجلا مصريا شارف الفقر فأُلهِم أن اشترى من الشام دجاجا بستين دينارا، وباعها بالقاهرة على القماطين بنحو ثمانمائة دينار". (المصدر السابق/57). وقوله" سمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلَّى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركةً واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا". (المصدر السابق/57). وهكذا يستمر في أحاديثه الأخرى!

بمعنى إنه الأصل في كلامه أن خبره الثقاة! لكن من هم الثقاة؟ وكيف نعرف إنهم حقا ثقاة؟ هل لأنه اعتقد بهذا الرأي، يلزمنا بقبول رأيه؟ ثم ما هو معياره في الحكم على الثقاة وهو رحالة لم يتعرف عليهم إلا خلال رحلته، ويرحل عنهم متنقلا الى مكان آخر بعد مضي فترة قصيرة؟ هذا كلام عبثي يتنافى مع الطرح العلمي والمنطق السليم. بل هو نفسه يعارضه! فهو يقول في كتابه (شرح تقدمة المعرفة) بأن" كل واضع كتاب علمي على جهة معدلة، فقصده تسهيله على المتعلم بثلاثة أوجه؛ الأول: أن يجتنب اللفظ الوحشي والملبس والمغلطة ويجتهد أن يصور المعنى في نفس المتعلم بغاية الإمكان. والثاني: أن يثبت الرأي بالحجج الممكنة والأدلة الواضحة، والثالث: أن يرتب الموضوع ترتيبًا يسهل حفظه ولا يصعب ضبطه". فهل فعل ذلك في رحلته؟

قال فارس الشدياق" إنها مصر الأمصار ومدينة المدن وعاصمة العواصم وشيء الأشياء إلى آخره. وما أدري فرق ذلك وكيف كان فيها مدينة غاصة باللذات السائغة متدفقة بالشهوات السابغة توافق المحرورين من الرجال خلافا لما قاله عبد اللطيف البغدادي. يجد بها الغريب ملهى وسكناً وينسى عندها أهلا ووطنا ومن خواصها أن ما يذهب من أجسام رجالها يدخل في أجسام نسائها فترى فيها النساء سمانا كالأقط بالسمن على الجوع والرجال كالحشف بالشيرج على الشبع، ومنها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة وأدبا وكياسة وشمائل مرضية وأخلاقاً زكية وأسواقها عارية عن ذلك رأسا".(الساق على الساق/89). كما قال البغدادي" إن ما تراه أعيننا أصدق بكثير مما نقرأه"، لكنه لم يطبقها على نفسه في موضوع حريق مكتبة القاهرة. ربما سمعها من عوام المصريين، فهو ينقل أحيانا ما يسمعه دون أن يتحقق منه. قال ابن ابي أصيبعة عنه " ألف الشيخ موفق الدين في ذلك كتاباً ذكر فيه أشياء شاهدها أو سمعها ممن عاينها تذهل العقل، وسمى ذلك الكتاب كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر". (عيون الأنباء في طبقات الأطباء). هذا بعض مما ورد في رحلته من غرائب لا تتوافق مع العقل والمنطق:

ذكر بأن بعض الناس أخبروه" إن شجرة الموز في الأصل مركب من قلقاس ونوى النخيل، تجعل النواة في جوف القلقاس وتغرس، وان كان القول ساذجا من دليل يشهد له، فالحس يسوغه". (كتاب الإفادة والاعتبار/71). فهو يعتمد الحس بدلا عن التجربة وهذه مثلبة وهو كما يفترض عالم بالنبات! كما إنه خلط بين القلقاس والزنجبيل فاعتبرهما واحدا مع اختلاف حجم الورق كأبسط فرق!

ومن عجيب ما ذكره: إن حمير مصر فارهة جدا وتركب بالسروج وقد تسبق في جريها الخيول والبغال النفيسة". (كتاب الإفادة والاعتبار/83) ومما قاله" التمساح حيوان مائي في الأصل لكنه يعيش في البر ويبيض في البر فيكون منه السقنور. الأسقنقور من نتاج التمساح". (المصدر السابق/85). ويضيف عبد اللطيف البغدادي" الاسقنقور ويكون بالصعيد وبأسوان كثيرا ويكون من نتاج التمساح في البر، وهو صنف من الورل، بل هو ورَلٌ إلّا أنه قصير الذنب". (المصدر السابق/20). وفي حين أن السنقور والتمساح حيوانان مختلفان.

كما أعتبر الصابئة من النصارى بقوله" لما كان النصارى معظمهم وجمهورهم أقباطا وصابئة، نزعوا إلى الأصل ومالوا إلى سنَّةِ آبائهم القديمة في اتخاذ التصاوير في بِيَعِهم وهياكل عبادتهم وبالغوا في ذلك وتفنَّنوا فيه، وربّما ترامَوا في الجهالة حتى يصوِّروا إلهَهُم والملائكةُ حوله بزعمِهم". (المصدر السابق/34). وهذا خطأ لا يُغتفر!

ومن عجائب ما ذكره" أخبّرني الثقةُ (من المصريين) أنهم بينما كانوا يتقفّون المطالب عند الأهرام، صادفوا دنّاً مختوماً فقضوه فإذا به عسل، فأكلوا منه فعلق في إصبع أحدهم شعر فجذبه فظهر له صبي صغير متماسك الأعضاء رطب البدن عليه شيء من الحُلي والجوهر". (المصدر السابق/35). هل يوجد عسل يبقى آلاف السنين على حالة؟ ويبقى الجسم البشري فيه طريا! وحديث آخر عن السلحفاة جاء فيه " الترسة وهي سلحفاة عظيمة وزنها نحو أربعة قناطير، ورأيتها بالإسكندرية يُقطع لحمها ويباع كلحم البقر. وفي لحمها ألوان مختلفة ما بين أخضر وأحمر وأصفر وأسود وغير ذلك من الألوان، وتخرج من جوفها نحو أربعمائة بيضة". (المصدر السابق/22). من المعروف أن عدد البيض عند السلحفاة، تتراوح ما بين 1 ـ 30 بيضة بشكل عام تفقس ما بين 50 ـ120 يوما. وعن سمك السرب قال عبد اللطيف البغدادي" وهي سمكة تُصاد من بحر الإسكندرية يحدث لأكلها أحلام ردية مفزعة، ولا سيما الغريب ومن لم يعتدها". (الإفادة والاعتبار/22). وعن فرس البحر قال" خبرني من اصطاد فرس البحر مرات وشقها وكشف عن أعضائها الباطنة والظاهرة أنه خنزير كبير وأن أعضاءها الباطنة والظاهرة، لا تغادر من صورة الخنزير شيئا إلّا في عظم الخلقة". (الإفادة والاعتبار/21). ويصفها " بالجملة، هي أطول وأغلظ من الفيل، إلّا أن أرجلها أقصر من أرجل الفيل بكثير، ولكن في غلظها أو أغلظ منها". (المصدر السابق/22).

وصف عبد اللطيف البغدادي صلاح الدين بن أيوب بالجهل والانصياع لآراء اتباعه دون تحقيق وتمحيص بقوله " كأن الملك العزيز عثمان بن يوسف لما استقل بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي. فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه ووكّلهم بخرابه فخيّموا عندها وحشروا عليها الرجال والصنَّاع ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع الحجر والحجرين، فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس والأشطان، فإذا سقط سُمع له جلبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترتجف له الجبال وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه ثم يضربون فيه الأسافين، بعد ما ينقبون لها موضعا ويبيتونها فيه، فيتقطع قطعا فتسحب كل قطعة على العجل حتى تُلقى في ذيل الجبل وهي مسافة قريبة، فلما طال ثوباؤهم ونفذت نفقاتهم وتضاعف نصبهم ووهنت عظامهم وخارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة". (الإفادة والاعتبار/26).

في حين يقول المقريزي عن العزيز عثمان" من عقلاء الدولة، له علم بالحديث والفقه، سمع الحديث من الحافظ السلفي وأبي عوف الزهري وابي محمد ابن بري النحوي ".

الحقيقة أنه لم يبقَ من مؤلفات البغدادي إلا بعض الكتب القليلة، منها الكتاب السابق في وصف مصر، ومخطوطته في مكتبة البودليان في أكسفورد وقد ترجم إلى الألمانية عام 1790م، وإلى الفرنسية عام 1810م، وإلى الإنجليزية عام 1964م. من هذه التواريخ نستنتج بأن المؤرخين الغربيين لم يطلعوا أصلا على كتاب البغدادي! وإنما نقلوا ما قاله إبن العبري.

من جهة أخرى قال عبد اللطيف البغدادي" رأيتُ أيضاً في الاسكندرية حول عمود السواري من هذه الأعمدة، بقايا صالحة بعضها صحيح وبعضها مكسور ويظهر مِن حولها أنها كانت مسقوفة والأعمدة تحمل السقف، وعمود السواري عليه قبة هو حاملها وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطوطاليس وشِيعته من بَعده". (الإفادة والاعتبار/28). لكنه يقول بعدها" اعلم أن الأهرام لم أجد لها ذِكراً في التوراة ولا في غيرها ولا رأيت أرسطو ذكرها، وإنما قال في أثناء قوله في السياسة: كما كان من سنَّة المصريين البناء". (الإفادة والاعتبار/38).

علق الأستاذ نبيل الكرخي على هذا الأمر بقوله" احتوت رواية البغدادي على خطأين فذكرت الرواية انَّ أرسطو طاليس كان يدرس في مدرسة الاسكندرية أي المتحف الذي ذكرناه سابقاً وهذا الأمر غير صحيح، لأن أرسطو طاليس (384 ـ 322) ق.م لم يحضر إلى الاسكندرية ولا إلى مصر. والخطأ الآخر هو أنها نسبت للإسكندر بنيانه وإنشائه للمكتبة وهو خطأ لأن الذي بناها هو بطليموس الثاني (فيلادلفوس) وقيل (بطليموس الاول سوتر). فإذا اخطأ البغدادي في معلومتين تأريخيتين فلا يستبعد انه قد اخطأ في المعلومة الثالثة ايضاً. فنجد انه من غير المجدي الاعتماد على رواية البغدادي هذه في إسناد التهمة للمسلمين بأنهم أحرقوا مكتبة الاسكندرية. ومن المحتمل أن يكون البغدادي قد ألف الحادثة من نفسه أو سمعها من أحد العوام دون أن يكلف نفسه التحقق منها. ولأن كتابه من أدب الرحلات فأنه غير معني أصلا بالحوادث السابقة". وقد جاء في سيرته الوحيدة " ترجمة كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر وفرغ من تأليفه من العاشر من شعبان سنة ثلاث وستمائة بالبيت المقدس". (عبد اللطيف/56).

يبدو ان البغدادي خلط بين ارسطو وارسطبولس أو بطليموس. قال محمد مسعود" أنشأ بطليموس سوطر في الاسكندرية مكتبة عزيمة جمع فيها انواع كتب العلوم والفنون حتى بلغ عدد مجلداتها نيف واربعمائة الف وأسس محلا علميا سماه بمدرسة الاسكندرية وكان يتخرج منه اعظم البلغار والفلاسفة الذين نبغوا في جميع العلوم، وكان بطليموس نفسه يحضر دروس الهندسة على اقليدس معيرا أياه إذنا واعية وعينا صاغية، منتبها صامتا كأحد التلاميذ". (المنحة الدهرية/70)

أضاف محمد مسعود" ممن يشار اليهم بالبنان في هذه العلوم دمتربوس دوفالير واريستارك في النحو، وهيروفيل وايرازسترات في الطب، وتيراك وارشتيد وهيبارقة وبطليموس وكانون في الهيئة، واقليدس وابوللونيوس وديوفانت في الهندسة، واراتوستين واسترابون في تخطيط المدن، وسنيزيديم وشكستوس وبوتامون وامونيوش ساكلس في الفلسفة، وممن نبغ بالمدرسة الاسرائيلية ارسطبولس وفيلون، وبالمدرسة المسيحية سان بنتان وكليمان". (المنحة الدهرية/95).

الأغرب من هذا كله اطلعنا على أهم الطبعات لكتاب البغدادي ولم نجد ذكرا لموضوع حريق مكتبة الإسكندرية! منها أقدم طبعة وهي (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر. عبد اللطيف البغدادي (توفي 629 هـ). تحقيق. علي عمر. مطبعة وادي النيل. مصر 1286 هـ). في حين وردت إشارة لا تزيد عن سطر واحد في (كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور والمشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر. موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي. إشراف وتقديم: د. عبد الرحمن الشيخ. الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطبعة الثانية 1998). فهل إضاف أحد النساخ هذه الأكذوبة للبغدادي، او أن المحققين حذفوها؟ الله أعلم بالحقيقة، ولكن النسخة القديمة برأينا هي الأصح، وربما يجد بعض المحققين مخطوطة أخرى، ويوافينا بالحقيقة.

 

تقي الدين المقريزي

يعتبر المقريزي شيخ المؤرخين المصريين وتتلمذ على يدية الكثير، وعُرف عنه التدقيق في الروايات التأريخية، والتحقق منها، والإشارة الى التفاصيل الدقيقة. لكن من المؤسف ان يقع المقريزي في الفخ الشعوبي بهذه السهولة، فقد نقل عن البغدادي الرواية بلا سند وتحقيق، رواها كما هي على علتها دون أن ينقدها كمؤرخ له ثقله ومكانته الكبيرة ويتبين مدى صحتها، سيما إنه مواطن مصري ويفترض أن يكون على دراية تامة بتأريخ أمته، لا يأخذ الأمور المهمة على عماها دون تحقيق وتحليل. وقد نقل عن المقريزي المؤرخ (لانجل) في كتابه فتوح الإسكندرية دون أن يشير الى حريق المكتبة. ويلاحظ ان المقريزي لم يعاصر الفتح الإسلامي لمصر وإنما نقل الأحداث عن غيره. جاء في كتابه (المواعظ والآثار) الآتي حول عمود السواري بالإسكندرية" وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة من عمر بن الخطاب رضى الله عنه". لاحظ أنها نفس العبارة بالضبط استقاها من البغدادي على علاتها، وبخلاف ما اتبعه في معظم رواياته التأريخية. وهذا أمر يدعو للأسف لأنه مصري وأعرف من غيره ـ أو يفترض به هكذا ـ بحوادث بلاده.

د. حاجي خليفة وهو عثماني موسوعي حجة في الفهرسة والتصنيف وأشهر كتبه (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) التي جمع فيها حوالي (18000) عنوانا للكتب، معظمها اطلع عليها بنفسه كما إدعى. والرجل يعد ثقة في الفهرسة ومعرفة الكتب، وليس كمؤرخ. وقد نقل رواية البغدادي دون سند، ويلاحظ ان عاش في زمن بعيد جدا عن الأحداث. لذا فأن روايته لا يؤخذ بها لأنه نقلها على عماها. الحقيقة ان كتابه رغم أهميته فيه الكثير من الأخطاء والتناقضات، لأنه يأخذ الرواية عن الناسخ والكثير من النساخ لا يلتزمون بضبط النسخ لأسباب عفوية أو مقصودة، لذا نجد اختلاف النسخ للكتاب الواحد، ويعتمد المحققون على عدة نسخ لضبط تحقيقهم. مثلا قال حاجي عند ذكر الإمتاع والمؤانسة" إن التوحيدي توفي سنة 380 وقال حين ذكر عنه في المقابسات" المتوفى بعد سنة أربعمائة تقريباً "، فأين الحقيقة؟ وهناك أخطاء كثيرة في كتابه لسنا بصددها.

شبكة البصرة

الاحد 26 ربيع الاول 1446 / 29 أيلول 2024

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط

print